غارثيا يكتب
أما نحن يا صديقتي، فعوضنا خيباتنا المتتالية بنوسطالجيا غامضة لما لم يمكننا الوصول إليه، واستنجدنا بقاموس ملحمي لينقذنا من مستقبل دونكيشوتي، تلفعنا بشعر ملئ بالحميمية، ليطرد عنا إحساسنا المرير بالبرودة، وجبنا شوارع طويلة، لاصطياد ابتسامة عابرة، ، آمنا بالديانات كلها، أملا في إله يرسل جيوشا من الملائكة ليخوضوا حروبنا معنا، دفاعا عن مبادئ لم نعد واثقين فيها. قرأنا ابن سيرين، وفرويد، لعلنا نعرف يوما سبب تلك الوطأة التي تتركها أحلامنا علينا، صحيح، نحن لم ننجح في حفظ ضحكات أحبائنا داخل خزانات حصينة في قلوبنا، ولم نتقن يوما رمي سهامنا في قلوب الآخرين، فلم نحظ يوما بحب محارب، لكننا حين سنغادر، سنترك ورائنا شوارعا مليئة بهمس أصواتنا بقصائد تكاد تخلق الحب خلقا في قلوب الناس، مدنا مليئة بهتافات تكدر صفو التواطؤ الجمعي مع القبح، كتبا عن كيفية خلق اليوتوبيا في ثمانية عشر يوما، لن يصدقها أحد بعدنا، استطبنا نشوة الأحلام، وهجرنا أؤلئك الذين يحبون أن تتلبسهم روح زرقاء اليمامة، أؤلئك الذين سيقضون أعمارهم، بتعريف أنفسهم، كمتنبئين، لم يروا إلا الخسارة، لقد سحرتنا روح الأنبياء، فبشرنا مثلهم بأديان لم يصدقها أحد، وأحببنا من لم يحبوننا، لكننا لم ندر خدنا الأيسر،
أما نحن يا صديقتي، فلم يفلح هجر من نحبهم، لنا، أن يثنينا عن مواصلة السير فوق خطواتهم، لم يفلح سير الزمان سريعا، أن يخفف رغبتنا في محاولة تقبيل آثار مرورهم الخاطف، فوق دنيا لا نملك العزيمة لنجوبها كلها، فسرنا القرآن في حلقات المساجد، وناقشنا ماركس في جلسات المقاهي، لعبنا ،أطفالا، في أي شارع اتسع لطفلين يسابقان بعضهما، ثم سرنا في تلك الشوارع، شبابا، مفكرين في تغيير العالم، ولم نحاول يوما ضم السبابة والإبهام، للتظاهر بالقبض على الشمس
كنا شيوعيين دوما، فتركنا ما لكل الناس، لكل الناس
مؤمنين دوما، فأرشدنا الناس لجنات لم نرها
متعصبين دوما، فلم تثنينا جراح الرأس، عن خبط الجدران برؤسنا لهدمها
أوفياء دوما، فلم نراجع أحدا في أمل تركناه عنده
ملحميين دوما، فاخترنا من الشوارع، أكثرها ازدحاما، للسير فيها
طفوليين دوما، فلم نصنع الفلك، خشية أن نخطئ عد أصدقائنا وقت الرحيل، فنترك ورائنا أحد نحبه ويحبنا
نوح صنع سفينته سريعا، ثم أفنى عمره في التأكد من وجود أصدقائه، أما نحن ، فأعمارنا قصيرة ، لم نر المسيح مصلوبا، ولم ندرك الحسين وحيدا محاصرا، لكننا ولدنا وفي قلوبنا أثر لخذلان ما، فسقينا مع موسى المرأتين الضعيفتين، ثم ذهبنا، نستريح تحت نفس الشجرة، ولم يأتنا أحد بدعوة للزواج، فكدرت نبوتنا، بعتاب مستمر للسماء
أما نحن، فكانت تكفينا ضحكات بعيدة ، تأتي عبر شبكات معقدة للهواتف، لنصنع منها حبا جميلا، ومحبين ملحميين، لا يمكننا استبدالهم، بعدها، بأي شئ، لم تكن تنقصنا مراوغات لغوية لصنع حكايات أخرى بنهايات أقل كآبة، ولا بلاغة تزين كل حكاية، بمجازاتها الخاصة، لتصطنع أصالة زائفة، لقد أحببنا كوننا أغبياء، في حبنا، وحاربنا احتمالات الشفقة البغيضة، عند الآخرين، بقدرتنا على سب ولاد الوسخة في وجوههم
سنترك ما لكل الناس، لكل الناس، صباحات دافئة على مدن نائمة، شوارع خالية إلا من قلائل يجوبونها وحدهم، موسيقى صاخبة في حفلات ليلية، نكات بذيئة في المقاهي ، دفء الأجساد الملتحمة، رسوم طفولية لعوالم بحرية متخيلة، ابتسامات العابرين، زحمة الشواطئ، ملمس الرمال، مذاق البحر، أحلام اليقظة، ضجة الأسواق، ألم الأقدام عند السائرين طويلا، والخائفين أن تنتهي دروبهم الحميمية، فجأة، نوم المنهكين، ارتواء الصائمين، فرحة الأعياد، أحلام تغيير العالم، صوت الرعد، حفيف الأشجار المنسية في الغابات، دعاء المسنات، المكر الطفولي، الأثر الغريب لضحكات الاصدقاء حين تأتي مندفعة من ورائنا، قبل أن نراهم
سنترك ما لكل الناس، لكل الناس، ونأخذ معنا، لحظاتنا الحميمية، شكاوى أصدقائنا، تجاربنا الأولى، نقاشاتنا الحماسية، رنة أصواتنا، إشارات أيدينا في الحديث، شكل خطواتنا، ونغادر، لا آسفين كثيرا، ولا فرحين بشدة، كنا كما نحن، وأحبننا ذلك
0 comments:
Enregistrer un commentaire