قصة بِـــقَلم المُبدع : مختار مختاري
بطلي
الساعة السابعة الا ربع صباحا ... دخل لبيته بهدوء ثم توجه إلى طاولة المطبخ ووضع عليها الخبز الساخن و بعض الفطائر التي تعود أن يجلبهما كل صباح من مخبزة الحي القديمة ... وهو ينزع معطفه يسمع صوت لطالما عشق رنينه
- صباح الخير ... لقد تأخرت قليلا في المسجد هذا الصباح ... كل شيء على ما يرام!!
- ههه صباح النور ... خمسة وعشرون سنة ومازلت تقلقين ان تأخرت بضع دقائق ... هل استيقظت أحمد ؟
- نعم سيلتحق بمائدة الفطور الان ...
-صباح الخير بابا (و في يده ورقة مطوية)
-كيف الحال بني هل نمت جيدا ... اليوم اول ايام الاسبوع يجب ان تكون في كامل نشاطك يا بطل ...
وفي تلك اللحظة التي يداعب فيها أبو أحمد ابنه الذي يحتسي كوب الحليب بيمينه ويمسك فطيرته بيده الاخرى ويضع تلك الورقة المطوية في حجره تنظر الأم إلى الصغير أحمد نظرة غزيرة بالحب والعطاء ... فقط هي تريد أن تبقى عائلتها بخير ومجتمعة دائما ...
بعد تناول فطوره و رسم قبلة على جبين ابنه الذي كان منشغل بفطيرته، انصرف إلى ورشته لتصليح السيارات التي هي في نهاية الشارع المؤدي إلى مدرسة ابنه أحمد
-أحمد بني ضع هذه الورقة في محفظتك والا ضيعتها !!
- لا ... هي واجب منزلي طلبته منا الآنسة صفاء وهو عبارة عن رسالة امتنان وشكر للاب ... وسالقيها اليوم على مسامع الطلاب ولهذا اود ان اراجعها وانا في طريقي الى المدرسة ... ماما انا مرتبك جدا
- من الطبيعي أن ترتبك بني ولكن أنا أثق انك ستلقيها بكل شجاعة و ستكون مذهل أمام معلمتك ... دعني اقرا ما كتبت .. لا لا سأطلع عليها في المساء حين تعود لقد حان وقت التحاقك بالمدرسة بني
دخل أحمد الى القسم وجلس مرتبكا في مكانه في الصف الأول قرب المكتب بجانب النافذة وينظر من خلالها لحديقة فناء المدرسة ... وينتظر انتهاء المناداة التي تقوم بها معلمته الآنسة صفاء كل صباح ثم يبدأ الطلاب بألقاء واجباتهم واحد تلو الآخر، واحمد يترقب دوره حتى يلقي رسالته التي يشعر انها اعظم هدية يستطيع أن يهديها لوالده.
شرع التلاميذ الواحد تلو الآخر، يُسمع زملائه ومعلمته ما كتب في الرسالة، وعندما ينتهي كل واحد منهم يصفقون له، اما احمد فهو أكثرهم تركيزا ويقارن ما كتبه زملائه بما يخبئه في ورقته حتى حان دوره؛ لقد زال ذلك الارتباك الكبير الذي تلبسه نوعا ما، فتقدم نحو المصطبة بهدوء، وزاد شوقه ليقدم تلك الرسالة كهدية لأبيه الذي هو بمثابة بطله الوحيد وقدوته المطلٙقة ... أنه ينتظر تصفيقا اكثر صخبا.
بأمر من الآنسة صفاء قام احد الطلاب بغلق باب القسم، و ضربت بقلمها على المكتب ليعم الهدوء فخلقت جوا ملائم وهادئ ... وكل أعين الطلاب متوجهة لـ أحمد، صوت واحد فقط وهو صوت خطوات المعلمة وهي متجهة لآخر القسم ... فما زاد ذلك إلى ارتباكا، شعرت لارتباكه فابتسمت له كرسالة ثقة وتحفيز ...
بصوت بريء وفيه شيء من البحاحة
"مرحبا أبي ...
أنا أحمد ابنك
كل الأطفال الذين في عمري لديهم ابطالهم الخارقون سواء في الافلام أو الالعاب الالكترونيه، ك صديقي سليم الذي يحب سوبرمان ودائما يرتدي زيه الاحمر والازرق ويكتب حرف أس في كل طاولة ... لطالما وبخته الآنسة صفاء على عادته هذه ...
أبي انا لا احب سوبرمان ولا باتمان ولا أرى أنهم أبطال ..
أبي انا أحبك انت، انت بطلي الوحيد
فجأة دق باب القسم فتوقف أحمد، ثم فُتح الباب فإذا به المدير ذلك الرجل يهابه التلاميذ ... وحتى المعلمين ايضا.
دخل على غير عادته ... هذه المرة مشغول البال، واتسعت عيناه حين رأى احمد يمسك ورقة ويعلوا المصطبة، اقتربت الآنسة صفاء من المدير فحيته و عينه على أحمد ...
-آنسة صفاء انا اريد احمد الان وعلى عجالة
-ما الأمر !! هل حدث شيء ما؟
بإشارة من المدير خرجت الآنسة صفاء معه واغلق الباب وهو يتمتم بصوت لايسمعه احد، انصرف المدير ودخلت الآنسة صفاء للقسم وعلى وجهها رسمة كل اشكال القلق و الفجأة و الشرود ... اصطنعت ابتسامة مزيفة ثم طلبت من أحمد أن يتم رسالته، خمس دقائق فقط ويدق جرس فترة الراحة التي يخرج فيها التلاميذ لفناء المدرسة.
لم تنتهي الخمس دقائق حتى دق الجرس على غير عادته، وأما احمد فلم ينهي رسالته ولم ينل التصفيق ... ولم يستطع أن يهدي بطله هديته التي هي أعظم إنجازاته ... وبينما احمد يرتب اغراضه بهدوء يمتزجه الشرود طلبت منه الآنسة صفاء أن لا يخرج وما أن انصرف كل الطلاب وضعت الآنسة صفاء يدها على كتفه ... همست في أذنه بكل حنان :
" بني أحمد ...
ستكمل رسالتك يوم غد ان شاء الله ... اعرف ان رسالتك جميلة ولكن الوقت داهمنا ... بني أحمد ان المدير يريدك حالا اذهب الى مكتبه، لاتقلق كل شيء على ما يرام" تبتسم ...
أخمدت الآنسة صفاء نار غيظه بكلماتها تلك، وأضمرت أخرى حينما أخبرته أن المدير ينتظره، خرج أحمد مسرعا من القسم برضاء يتخلله بعض الفضول وبيده رسالته التي لم ينهي قراءتها ولم يسمعها منه أحد ... اقترب الان من رواق الإدارة الذي يوجد في آخره مكتب المدير، ولكنه فوجئ بوجود المدير ينتظره ويترقب وصوله، اقترب أحمد من المدير و تبعثرت خطواته ....
-مرحبا بني أحمد هل انت بخير، اخبرتني الآنسة صفاء أن رسالتك رائعة وانك من المجتهدين في الواجبات ... احسنت بني.
ارتاح احمد وخف عنه ذلك الضغط وابتسم ثم تابع المدير كلامه مرتبكا ... " هناك أمر ما يخص عائلتك بني سنذهب سويا الى بيتكم .. حسنا!! "
هز احمد برأسه موافق ثم أخذ المدير بيده اليمنى واليسرى بها الورقة المطوية، ليخرجا من المدرسة، وعندما عبرا الباب يمر رجلان و عيناهما تترشق الولد واحدهما يسأل الآخر" أهذا هو ابنه ؟؟ فيضغط صاحبه على ذراعه إشارة منه أن يصمت ... أحمد المسكين لم يفهم شيئا ثم رفع رأسه الى المدير مناجيا وكأنه يستفسر بنظرة خاشعة فتظاهر المدير بانشغاله بعبور الطريق، ثم تابعا السير، فجأة تظهر من بداية الشارع الذي فيه ورشة أبو أحمد سيارة إسعاف مسرعة كالبرق والمارة والسيارات يفسحون لها الطريق ... فجف ريقه فشعر المدير بقلق الولد فأراد أن يقول شيئا فلم يجد أي تصرف وهما يتابعان السير لنهاية الشارع، اقتربا من الورشة اذ جمعّ غفير يسد بابها وفوضى عارمة تجتاح المكان والناس يصيحون ... ينفلت الولد من يد المدير ويقترب مسرعا فاكتملت الصورة عنده ... ورشة بطله سوداء و دخانها يبحر في السماء ... لقد احترقت !!
انفجار سيارة في الورشة ... هذا كل ما في الأمر وانتهى كل شيء رجال الاطفاء مرهقون وملطخة ثيابهم وجارهم ابو أسامة لايكاد يُعرف من كومة السواد التي اكتست وجهه ... !!
ارتمى أحمد على اريكته الجلدية البنية و مد رجله فوق الطاولة واردف الاخرى فوقها، أنه مرهق من عمله الجديد، كان يوما شاق، اخذ روايته الجديدة التي بدأ في قراءتها منذ يومين وسينهيها الليلة، وهو متحمس ومتشوق لاحداثها مع سانتياغو الذي يبحث عن الكنز، ثم شرد وغاص في بحر أفكاره ويسأله نفسه لماذا ترك سانتياغو والده وغادر قريته من أجل نعاجه!! ألا يعرف أن الاب والام هما الكنز الحقيقي؟
لالا ... لايمكن أن يفعل هذا .. هي مجرد رواية فقط، لكن هناك الكثير من الأبناء لاهتمون لأمر العائلة وقُدسيّٙتها ... تبا !! كان على الكاتب أن يدرج في روايته أن سنتياغو يرسل رسائل لأبيه ليطمئنه !!
لم يفعل لانه يعرف أن الأبناء لايكترثون لمثل هذه الأشياء، حتى انا يا باولو كويلو لم أتم رسالتي لابي ولم يسمعها مني احد ... حتى أمي لم تقراها في ذلك الصباح .. انت محق يا باولو حين جعلت سانتياغو ينسى والده ...
يقوم مسرعا الى غرفته ويغلق الباب ويلقي بنفسه على سريره ويجشه بالبكاء ويقبض على شراشف سريره بكل حرقة ويدفن رأسه بين وسائد سريره ... ابتلت بدموعه وكأن السقف هٙر ونزلت فوقه امطار السماء ... جف حلقه وهو يتنهد لتنزف دموعه وكأنها من بئر لا يجف ابدا ... كبئر زمزم !!
بني أحمد مابك!! استيقظ بني لماذا تنام بحذاءك
هل انت بخير!!
- بخير الحمدلله، كنت مرهق بعد عمل يوم امس، كم الساعة؟
- الخامسة صباحاً ... جئت اتفقدك بني قم غير ملابسك
-حسنا أمي ...
خرجت الام مسرعة واغلقت باب غرفته، وفتحت الفجوات لتتراكم امواج دمعها على خديها، وقلبها مهشم على حال ابنها لا يمكن أن لا تلاحظ ملامحه المتلاشية من البكاء وعيناه اللتان اكتستا باحمرارا، لم تشأ أن ترهقه بأسئلتها عن حاله ... لانها تعلم كل شيء ... لأنه ابنها، هكذا هن الامهات يكتفين بتخزين اوجاعهن عن ابنائهن ولا يبدين التحسر والألم لكي لا يزيدوهم رهقا ... هن منجم للحنان !!
يتنهد أحمد وينهظ ببطء الى مكتبه، يفتح الدرج ثم يأخذه ورقة منه، ويمسك قلما ويكتب ..
"مرحبا أبي ...
بعد عشرون سنة أكتب إليك ابي،
اعلم اني تأخرت و كان يجب أن اشكرك، لكنك ذهبت مسرعا أبي اعلم انك تحبني ولكنك تركتني ...
لم تنتظر حتى المساء لكي اقرأ لك هديتي ...
انت البطل يا أبي ... البطل لا يترك من يحبونه ولأنني متيقن انك بطلي فانك تسمعني ...
لقد كبرت وانهيت دراستي الجامعية وانا الان أعمل مهندس في ميكانيك السيارات ..
مازلت ازور ورشتك المذهلة .. انها اعظم من الشركة التي أعمل فيها ...
في أيام الابتدائيه كنت اعتقد انك ستصنع سياره يوما ما و افتخر بك أمام اصدقائي ..
وسأخبر سليم الغبي أن بطلي يصنع السيارات اما بطلك فإنه بالكاد لا يستطيع أن يخرج من التلفاز ....
لقد كتبت هذا في رسالتي قبل عشرون سنة !!
وتوعدتهم بذلك ... لم اكن اعلم انك تصلح السيارات فقط،
وسأحقق ماوعدتهم فانا ابن البطل ...
وهكذا سأنهي رسالتي التي لم اتممها قبل عشرون عاما .. ستسعد الآنسة صفاء بذلك وسيصفقون لي حينها، وأتمنى أن لا يأتي مدير الشركة ليدق الباب قبل أن يصفقوا لي ...
ابنك أحمد "
ثم يطوي الورقة ويبتسم ويقول في نفسه "انا افضل منك باب سانتياغو ... انا اراسل أبي رغم رحيله عن الدنيا، وانت لم تفعل هذا مع والدك وهو في الدنيا ..."
يخرج من الغرفة بعد أن غير ملابسه ثم صلى الصبح ونزل من الدرج يبتسم وينادي
ماما سأجلب الفطائر من المخبزة القديمة لنفطر سويا.
انتهى.
ملاحظة: سانتياغو هي شخصية من رواية الخيميائي الرائعة الروائي العالمي #باولو_كويلو رواية رائعة
أقول: "كن مثل أحمد الذي يهتم بعائلته و يراسل أباها حيا برسالة امتنان وميتا بتحقيق شيئا يسعده؛ لاتكن مثل سانتياغو الذي لا يهتم لأمر العائلة "
0 comments:
Enregistrer un commentaire