أحمد حمدي يكتب قصة بعنوان : صياح الملائكة
لم يبق منه غير فتات إنسان ،تذروه الرياح، وتلهو به العواصف،وقد حالت بيني وبينه آلاف من حلقات مشتعلة باللهب، بدا لي هنالك مثل شبح ذابل ، عيناه مفتحتان دون رؤية، وقدماه حرتان دون حركة، ونفسه حية دون حياة ، كان مثل سمكة تنقبض خياشيمها وتنبسط ، لكنها تنقبض وتنبسط لتموت ، لا لتحيا
وتذكرته ، هو البهي الطلعة ، ذو العينين البارقتين بالمرح، والشفتين المشبعتين بالجذل، وهو يسير كل يوم عابرا الحقول الخلفية لمنزلنا ، ذاهبا الى المحطة القريبة ، ليركب القطار ، مرتديا بذلته الكحلية الأنيقة ، وفى يده حقيبته السوداء، كنت طفلا غريرا أنظر إليه بعين الإجلال، وأفغر فاهى كلما رأيته ، من الدهشة، وسألت أبى ذات يوم عنه، فقال أنه (عقبال أمالتك
( جورنانجي قد الدنيا ، بس أشوفك نصه )
حينها سألت أبي قائلا:ـ هبقى نصه ازاى وانت مقعدني من المدرسة
ـ يابن الكلب روح اسقي البهايم ووكلهم هصرف عليك وعليهم
اشتد الغضب بي ،ولكني لم أزد حرفا على ماقلت ، وبقيت طيلة أيام طوال، أقف كل صباح لأشاهده وهو ماض بين الحقول الخضراء، مع الوقت تخيلته ليس إنسانا حقيقيا ، ليس هو فارس بن عمدة قريتنا الذى يحكىي عنه الناس، إنه عفريت ، كانت جدتي قد حكت لي ذات مساء عن العفريت الذى كان يبدو لها كل صباح مع خيط الفجر الأول ، وكانت تراه تارة فى ثوب أفندي يلبس لباس الأفنديات، وتارة فى ثوب فلاح جارنا ، فلما اقتربت منه لتصبح عليه ،اختفى من أمامها وتلاشى ، ماذا يمنع أن يكون هذا هو عفريتي ، عفريت يظهر لي كل صباح لكنه يستقر على شكل واحد وهيئة واحدة ، وتملكني الخوف فانقطعت يومين عن انتظاره ورؤيته ، ولكني في اليوم الثالث لم أستطع، خرجت إلى الحقل ثانية ، لأراه.
ومضت أشهر على ذلك الحال
وفجأة قالوا إن فارس بن العمدة قد خطب فتاة قاهرية ، وأن والده العمدة أزعجه ذلك ، فوبخه ، وطرده ، فحزنت لذلك أيما حزن وسمعت أبي يقول لجدتي المغرمة بالحكايا :ـ
ـ بيقولوا انها بت بطالة ، أنتِي تايهة عن بنات مصر ياما
ـ اه والنبى يابنى ، دول بنات فاجرة وقادرة والعين يندب فيها رصاصة
انفعلت عليهما ، وقد دبت الغيرة فى قلبى على فارس ، ذلك الشاب الذى أحاطه خيالي البكر بهالة من القداسة وقلت صائحا :ـ وانتى كنت شوفتي بنات مصر امتى ياستي ، ده انتي حتى ماعدتيش بتشوفى
وتلقيت يومها (علقة ساخنة )من أبى لم أنسها إلى الآن ، ولكني أصررت على رأيى ، فارس لايمكن أن يعرف بنت من أولئك العابثات ، فارس خيرة شباب القرية ، بل هو خيرتهم على الإطلاق ، كلهم فلاحون أجلاف ، الطين يوحل سيقانهم، وقسوة الأرض تيبس أيديهم ، سحنهم قبيحة ، وملابسهم مهلهلة ، أما فارس فكان ذو وسامة وأناقة، ووسامته ، كما حكت لى أمي، ترجع لأمه ذات العرق السوري ، والتى تزوجها والده ، فأنجبته ، ثم ماتت ، وتركته طفلا وحيدا ، لكنه كان الإبن الوحيد للعمدة الذى فلح فى التعليم ، حتى صار صحافيا لامعا
ـ برضو مهما تضربني لا يمكن فارس أفندى يعرف بنات بطالة
وتخلصت من يدي أبي القاسيتين كمقبضين من نحاس ، وجريت نحو محطة القطار ، وقد تكفلت نسمة الهواء الباردة بتجفيف دمعي ، كنت أعرف أن فارس هناك ، وأنه لابد سيسافر ، وربما لن يعود ، وكنت أود أن أودعه ، وكنت شغوف أكثر برؤية عروسه ، ولكن أنى لى ذلك ؟
كنت طماعا أكثر ممايجب .
ووصلت المحطة ألهث ككلب صغير ، فرأيته ، رأيته وهو يركب القطار، وناديت عليه ، ناديت عليه بكل قوتي ، لكن صوتي لم يبلغ أذنه ، منعته رياح الشتاء ، التى ازدادت قوتها فجأة ، ومن غير أن أدري، تعلقت بالقطار ، أمسكت بمقبض الباب كمجنون ، وأحدهم يزجرنى(ارجع ياولد ، ارجع ياعفريت) ، وما لبث أن نزع يدي عن مقبض الباب الحديدي، فسقطت على المحطة ، يشلف وجهي الدماء ، ومضى القطار ، مضى دون أن ألحق بفارس ، فقمت ألعن ذلك الرجل الذى منعنى اللحاق به ، ورجعت الى الدار أجر أذيال الخيبة ، وأكتم الدم ، بطرف جلبابي الرث، الملىء بشتى القذارات !
ومضت أشهر وانا أقوم كل صباح أنتظره ، وأعود مخذولا، فأمنى نفسى برؤياه فى اليوم التالى ، فأرجع بذات الخذلان ، كنت أتخيله وهو قادم ببذلته الأنيقة ، يصحب زوجته القاهرية ، وقد تعلقت بذراعة ، كست الحسن التى حكت لي عنها جدتي كثيرا ، لكنه لم يحدث ، ولكني أيضا لم أمل ، ولم أيأس.
وفى يوم ما ، بعد سبعة أشهر عددت أيامهم بدقة ، رأيته ، رأيته راجعا ، لكن ست الحسن لم تكن معه ، بل إنه لم يكن هو فارس الذى عرفته ، كان على أقصى تقدير صورة منه ، صورة ذات شعر مهوش ، وبذلة رثة ، ولحية كثيفة ، ووجه أنهكته الأحزان
أصابتني الصدمة ، ونمت فى قلبي الطفل أشجار من الأحزان ، فجرؤت ، وذهبت لأراه فى دوار العمدة ، فنهرنى الخفراء ، وكادوا يضربوننى ، فعدت خائب الرجاء ، لم أنم فى تلك الليلة ، وظللت أفرك مثل خروف يتقلب على النيران ، وفى المساء الاخر ، خرجت الى الدوار ، لكن تلك المرة قفزت من فوق السور ، ودخلت أتحسس طريقي فى الظلام ، وكنت أشعر أني لابد سأراه ، وكنت على ذلك أتمنى ألا يكون هو ، أن يكون ما رأيته شبحا من صنع الخيال ، ولكنىي رأيته ،كان جالسا فى حجرة مفتوحة النافذة ، مضاءة بنور الكلوب ، شاخصا لا إلى شىء ، تتصاعد من فيه دفعات من الدخان ، رغما عني عطست ، ورن صدى عطستي قويا ، غير أنه مع ذلك لم ينتبه لي ، بينما قدم خفير يدب بقدميه الغليظتين صائحا ( مين هناك)، وتملكني الرعب ، فهرولت مسرعا نحو السور ، وقفزت قبل أن تمسك يداه بي ، وجريت عائدا نحو الدار ، وقد تركت رؤيتي لفارس مزيج من الأحزان والسرور
كانت القرية تغلي مثل مرجل بالحديث ، فلا شغل لهم غير فارس ، بعضهم قال أن زوجته القاهرية قد خانته ، وأقسم بعضهم أنه كان يلوف على راقصة تعمل فى كباريه ، سرقت كل مالديه ، ثم طردته ، وإلا لم رفض والده الزيجة ، وأقسم آخرون ، وآخرون على غير ذلك.
وظللت أنا كل مساء أذهب لأراه ، وظللت أيضا أصرخ فى وجه جدتي :ـ فارس لا يمكن يعرف بنات بطالة
ولم أكن لأصرخ فى وجه جدتي وحسب، بل وأمر على بيوت القرية بيتا بيتا ، عند حلول المساء ، وأصرخ فيهم ( فارس لايمكن يعرف بنات بطالة ..) ثم أطير مع الريح ،فلا يجدون لى أثرا ، فيخرج الناس يقلبون أكفهم ، ويقولون سبحان الله ، لقد أرسل الله ملكا يخبرنا ببراءة فارس، ثم يطير بجناحيه فى طرفة عين ، ولا نراه ، وانتشرت هذه القصة ، وآمن بها الناس فى القرية ، وصاروا جميعا يرددون تلك الجملة ( فارس لا يمكن يعرف بنات بطالة ... فارس لايمكن يعرف بنات بطالة ) وقد أثلج نفوسهم اليقين ..
الا أنا ، فقد نمت في نفسي الشكوك، وفتت قلبي الأحزان ، وأنهكتني الهواجس والكوابيس
ومع ذلك ، لم أستطع أن أحدثه أو أعرفه بي ، كأن هوة سحيقة تفصلني عنه، هوة من الخوف والعذاب والألم ، فكنت أكتفي برؤيته من خلف النافذة المفتوحة دائما ، وروحه تتساقط قطرة إثر قطرة، وشمس عمره تجد نحو الغروب
0 comments:
Enregistrer un commentaire